( العزف على أوتار مقطوعة ) قصة قصيرة
المذهل أنك حين عدت فجراً لأخذ حقيبتك وجدتها أعدت لك طعام إفطارك رغم فعلتك منذ ساعات .. تندفع إلى باب حجرتها وتكاد تدخل لتنحنى على يدها فى صمت وتبكي لكن يدك اليمنى تتجمد على مقبض الباب فتدرك أنها لم تعد جزءا منك .. تتمنى لو ينفرج الباب قليلا لتلقى فقط نظرة خجلى عليها وعلى إخوتك المتناثرين حولها بلا غطاء ..
فى طريقك إلى محطة القطار تعجز أن تركل كل حصاة تقابلك ولا تتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعاً صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم .. تسرع بإغلاق نافذة الدرجة الثالثة تفادياً لطلقات البرد المتوالية .. تحاول أن تفعل ما تفعله كل مرة ، فتكثف أنفاسك الثلجية على الزجاج وترسم بسبابتك نفس العينين الواسعتين الخائنتين وتكتب حولهما أسماء قصصك التى لم تكتمل بعد .. هذه المرة قطرات الكلمات كلها تهرب من أماكنها وتندمج أسفل العينين المرسومتين ، فى نقطة كبيرة تسقط كدمعة ثلجية ملتهبة فوق ركبتك حيث تلتقى بأخريات تنهمر من عينيك ... تمسح الزجاج بسرعة وتحدق فى أصابعك التى تبدو لك الآن طويلة .. طويلة ..
لماذا تركتها صامتاً تسترسل فى اتهاماتها لك بالتخاذل وتنعى حظ إخوتك اليتامى مكسورى الجناح كما قالت .. صمتك ظنته لا مبالاة ونظراتك الميتة من الأسى تخيلتها استسلاما ، فأخذت تشتمك وتهزك بعنف طالبة منك أن تنطق .. عذاباتك كلها تجمعت فى يدك وهى ترتفع إلى وجهها دون وعى لم يرتد إليك إلا حين تعلقت أصابعك الآثمة فى الهواء ، بعد أن حفرت تلك الخطوط الدامية البشعة على وجهها المتغضن بصورة لم تلحظها سوى الآن .. شهقتها المفزوعة انتزعت قلبك وعصرت روحك بضراوة .. وعيناها المتلاشى نورهما شيئاً فشيئاً فوق ماكينة الخياطة المتهالكة ، لم تبخلا بضخ دموعهما بصمت قاتل .. تمنيت أن ترد على فعلتك بأية طريقة .. تصفعك آلاف الصفعات أو يتصل حبل شتائمها الطويل ويلتف حول عنقك ليزهق روحك .. لكنها صمتت .. أنت أيضا لم تستطع أن تنبس بحرف .. لم تحكِ لها ولا لأحد عن عذاباتك المستمرة .. نسيت حتى أن تخرج لها جيوبك الخاوية قبل أن تصفق الباب وراءك ..
على رصيف محطة الوصول تنتبه إلى أنك ، لأول مرة لم تعد المحطات العشرين التى يقف بها القطار خشية أن تزداد واحدة .. حين يسألك شيطانك متشفياً سؤاله الخبيث المعتاد: " لماذا تخدع نفسك وتتوهم أنك سعيد ؟ " , تعجز أن تشد أذنيه هذه المرة وأن تقول بصوت يسمعه الجميع: (طظ) .. تعترف بفشلك فى عزف لحن السعادة على أوتار أيامك .. فى الظلام الدامس على سلم الاستراحة المتآكل ، تلعن الوزارة التى لم يتبقَ من كيانها سوى اسم يثير السخرية ، والتى قذفت بك إلى هذا المنفى بعد تخرجك ..
تلقى السلام على زملائك الخمسة فى نفس الحجرة ، ثم تنكمش أطراف جسدك تلقائياً لتستلقى بملابسك على سريرك السجن فى انتظار نوم تعلم أنه لن يجئ .. تنقضى الليلة بعد كابوس مقيت يجعلك تتصبب عرقاً رغم لذعات البرد .. ترى رجلاً مجهول الملامح يخطو نحوك خطوات بطيئة وبيده سكين طويلة .. بسهولة يقيد حركتك ويأخذ فى قطع ذراعك اليمنى .. العجيب أنك لا تقاومه .. فقط تتألم بصمت وتستعذب الألم لتفيق بإحساس أن مخدراً ما يسرى بذراعك ..
تفقد استمتاعك بعملك الذى تحبه رغم دورانك المستمر فى ساقية الضغوط .. فى الفصل تهتز يدك على السبورة وتفلت منك أعصابك عده مرات ، وتنفى البنت الجالسة أمامك فى الصف الأول إلى آخر الفصل لمجرد أنها تمتلك عينين واسعتين تديران الشريط الطويل لخيانات من كانت حبيبتك وخيانات بعض مَن ادعوا أنهم أصدقاؤك .. تتشاجر مع زملائك ونفسك لأتفه الأسباب والرجل ذو الملامح المجهولة يظل يقطع ذراعك كل ليلة .. المأساة أن ملامحه تنكشف أمامك فجأة ، فتجده – مصعوقاً – أباك الراحل ..
يزداد المخدر المنتشر فى عروقك حتى توقن أنك ستفقد ذراعك قريباً .. الخميس وزملاؤك يستعدون للسفر ، تكابر فتخبرهم أنك لن تغادر المعتقل هذا الأسبوع .. ليلتها تقاوم النوم خوفاً من براثن نفس الكابوس لكنه يهزمك .. تستقل أول قطار فى الصباح لتكون هناك .. من آثار السهر المحتلة ملامحها تعلم أنها لم تنم ليلة أمس قلقاً عليك .. تختبئ بأحضانها ، تنهنه وتغمر يدها بلثماتك فى تبتل .. تلقف كلمة "يا بني" من بين غمغماتها الباكية فتدرك أنها غفرت لك وأنه سيكون باستطاعتك غدا فى الفجر أن تركل كل حصاة تقابلك وتتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعا صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم.
– تمت - إيهاب رضوان .
المذهل أنك حين عدت فجراً لأخذ حقيبتك وجدتها أعدت لك طعام إفطارك رغم فعلتك منذ ساعات .. تندفع إلى باب حجرتها وتكاد تدخل لتنحنى على يدها فى صمت وتبكي لكن يدك اليمنى تتجمد على مقبض الباب فتدرك أنها لم تعد جزءا منك .. تتمنى لو ينفرج الباب قليلا لتلقى فقط نظرة خجلى عليها وعلى إخوتك المتناثرين حولها بلا غطاء ..
فى طريقك إلى محطة القطار تعجز أن تركل كل حصاة تقابلك ولا تتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعاً صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم .. تسرع بإغلاق نافذة الدرجة الثالثة تفادياً لطلقات البرد المتوالية .. تحاول أن تفعل ما تفعله كل مرة ، فتكثف أنفاسك الثلجية على الزجاج وترسم بسبابتك نفس العينين الواسعتين الخائنتين وتكتب حولهما أسماء قصصك التى لم تكتمل بعد .. هذه المرة قطرات الكلمات كلها تهرب من أماكنها وتندمج أسفل العينين المرسومتين ، فى نقطة كبيرة تسقط كدمعة ثلجية ملتهبة فوق ركبتك حيث تلتقى بأخريات تنهمر من عينيك ... تمسح الزجاج بسرعة وتحدق فى أصابعك التى تبدو لك الآن طويلة .. طويلة ..
لماذا تركتها صامتاً تسترسل فى اتهاماتها لك بالتخاذل وتنعى حظ إخوتك اليتامى مكسورى الجناح كما قالت .. صمتك ظنته لا مبالاة ونظراتك الميتة من الأسى تخيلتها استسلاما ، فأخذت تشتمك وتهزك بعنف طالبة منك أن تنطق .. عذاباتك كلها تجمعت فى يدك وهى ترتفع إلى وجهها دون وعى لم يرتد إليك إلا حين تعلقت أصابعك الآثمة فى الهواء ، بعد أن حفرت تلك الخطوط الدامية البشعة على وجهها المتغضن بصورة لم تلحظها سوى الآن .. شهقتها المفزوعة انتزعت قلبك وعصرت روحك بضراوة .. وعيناها المتلاشى نورهما شيئاً فشيئاً فوق ماكينة الخياطة المتهالكة ، لم تبخلا بضخ دموعهما بصمت قاتل .. تمنيت أن ترد على فعلتك بأية طريقة .. تصفعك آلاف الصفعات أو يتصل حبل شتائمها الطويل ويلتف حول عنقك ليزهق روحك .. لكنها صمتت .. أنت أيضا لم تستطع أن تنبس بحرف .. لم تحكِ لها ولا لأحد عن عذاباتك المستمرة .. نسيت حتى أن تخرج لها جيوبك الخاوية قبل أن تصفق الباب وراءك ..
على رصيف محطة الوصول تنتبه إلى أنك ، لأول مرة لم تعد المحطات العشرين التى يقف بها القطار خشية أن تزداد واحدة .. حين يسألك شيطانك متشفياً سؤاله الخبيث المعتاد: " لماذا تخدع نفسك وتتوهم أنك سعيد ؟ " , تعجز أن تشد أذنيه هذه المرة وأن تقول بصوت يسمعه الجميع: (طظ) .. تعترف بفشلك فى عزف لحن السعادة على أوتار أيامك .. فى الظلام الدامس على سلم الاستراحة المتآكل ، تلعن الوزارة التى لم يتبقَ من كيانها سوى اسم يثير السخرية ، والتى قذفت بك إلى هذا المنفى بعد تخرجك ..
تلقى السلام على زملائك الخمسة فى نفس الحجرة ، ثم تنكمش أطراف جسدك تلقائياً لتستلقى بملابسك على سريرك السجن فى انتظار نوم تعلم أنه لن يجئ .. تنقضى الليلة بعد كابوس مقيت يجعلك تتصبب عرقاً رغم لذعات البرد .. ترى رجلاً مجهول الملامح يخطو نحوك خطوات بطيئة وبيده سكين طويلة .. بسهولة يقيد حركتك ويأخذ فى قطع ذراعك اليمنى .. العجيب أنك لا تقاومه .. فقط تتألم بصمت وتستعذب الألم لتفيق بإحساس أن مخدراً ما يسرى بذراعك ..
تفقد استمتاعك بعملك الذى تحبه رغم دورانك المستمر فى ساقية الضغوط .. فى الفصل تهتز يدك على السبورة وتفلت منك أعصابك عده مرات ، وتنفى البنت الجالسة أمامك فى الصف الأول إلى آخر الفصل لمجرد أنها تمتلك عينين واسعتين تديران الشريط الطويل لخيانات من كانت حبيبتك وخيانات بعض مَن ادعوا أنهم أصدقاؤك .. تتشاجر مع زملائك ونفسك لأتفه الأسباب والرجل ذو الملامح المجهولة يظل يقطع ذراعك كل ليلة .. المأساة أن ملامحه تنكشف أمامك فجأة ، فتجده – مصعوقاً – أباك الراحل ..
يزداد المخدر المنتشر فى عروقك حتى توقن أنك ستفقد ذراعك قريباً .. الخميس وزملاؤك يستعدون للسفر ، تكابر فتخبرهم أنك لن تغادر المعتقل هذا الأسبوع .. ليلتها تقاوم النوم خوفاً من براثن نفس الكابوس لكنه يهزمك .. تستقل أول قطار فى الصباح لتكون هناك .. من آثار السهر المحتلة ملامحها تعلم أنها لم تنم ليلة أمس قلقاً عليك .. تختبئ بأحضانها ، تنهنه وتغمر يدها بلثماتك فى تبتل .. تلقف كلمة "يا بني" من بين غمغماتها الباكية فتدرك أنها غفرت لك وأنه سيكون باستطاعتك غدا فى الفجر أن تركل كل حصاة تقابلك وتتجاهل الرصيف لتمشى فى منتصف الطريق الخالى ، رافعا صوتك بأغنية مليئة بالشجن لأم كلثوم.
– تمت - إيهاب رضوان .